فصل: مسألة يَمُد من بسم الله الرحمن الرحيم ما لا يُمَدُّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ما يزع الِإمام الناس:

فيما يزع الِإمام الناس قال مالك: بلغني أَن عثمان بن عفان قال: ما يزع الِإمام الناس أكثر مما يزعهم القرآن، قال: يزعهم يكفهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن الذين ينتهون من الناس عن محارم الناس مخافة السلطان، أكثر من الذين ينتهون عنها لأمر الله، ففي الِإمام صلاح الدين والدنيا، ولا اختلاف بين الأمة في وجوب الِإمامة ولزوم طاعة الِإمام.

.مسألة تكنية الصبي:

من تكنية الصبي وسئل مالك: عن الصبي أيُكنَّى؟ قال: لا بأس بذلك، فقيل له: فكنّيت ابنك أبا القاسم، قال: أمَّا أنا فلا أفعله، ولكن أهل البيت يكنّونه فلا أرى بذلك بأساً.
قال محمد بن رشد: قوله في تكنية الصبي: إنَّه لا بأس بذلك- يدل على أن ترك ذلك أحسن عنده، ولذلك قال في تكنية ابنه: أمَّا أنا فلا أفعله. وأهل البيت يكنونه. وإنَّما كان تركه أحسن، لما في ظاهره من الِإخبار بالكذب؛ لأن الصبي لا ولد له يكنى عن اسمه به كما يفعل ذلك من له ولد من الرجال، وجاز، ولم يكن فيه إثم ولا حرج، إِذ لا يقصد بذلك إلى الِإخبار بأنه والد للمكنى باسمه، وإنَّما تجعل الكنية التي يكنَّى بها اسماً علماً له على سبيل الِإكرام له والترفيع به، وبالله التوفيق.

.مسألة دليل النبي عليه السلام في هجرته إِلى المدينة وما ظهر في ذلك من معجزاته:

في دليل النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في هجرته إِلى المدينة وما ظهر في ذلك من معجزاته قال مالك: كان اسم الدليل رقيط، وكانوا أربعة، النَّبي عليه السلام، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولي أبي بكر، والدليل.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في بعض الكتب: رُقيط، وفي بعضها: أُريقط. وقال ابن عبد البر في الدرر له: إِن اسمه عبد الله بن أرقط. ويقال: أريقط. وكان النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر قد استأجراه حين خروجهما من مكة ليدل بهما إلى المدينة، وكان معهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، فكانوا في مسيرتهم إلى المدينة أربعة كما قال، وذلك أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لما بايَع أهل المدينة الأنصار، ودخلوا في الِإسلام، وهاجر إليها من هاجر من المسلمين، شق ذلك على قريش، وقالوا: هذا شيء شاغل لا يطاق، فأجمعوا أَمرهم على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عزَّ وجلّ أن يعمي عليهم أثره فطمس اللَّه تعالى على أبصارهم، وخرج وقد غشيهم النوم فوضع على رؤوسهم تراباً ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي وأخبرهم أن ليس في الدار دَيار، فعلموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فات ونجا وتواعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أَبي بكر الصدِّيق للهجرة، ودفعا راحلتيهما إلى الدليل المذكور، وكان كافراً لكنهما وَثقا به، فاستأْجراه ليدل بهما إلى المدينة، ثم نهضا حتى دخلا الغار بجبَل ثور، وكانت أسماء بنت أَبي بكر تأتيهما بالطعام، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم، فيعفي آثارهما، فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف فقفا الأثر حتى وقف على الغار، فقال: هاهنا انقطع الأثر، فانظروا، فنظروا فإِذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، وأمر الله تعالى حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إلى ذلك أيقنوا أن ليس في الغار أحد، فرجعوا، «فقال أبو بكر للنَّبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ عِنْدَ قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».
فلما مضت لبقائهما في الغار ثلاثة أيام أتاهما الدليل براحِلتيهما وأسماء بسُفرتهما، وكانت قد شقًت نِطاقها، فربطتَ بنصفه السُفرة، وانتطقت النصف الآخر ولهذا سميّت أم النطاقين فركبا راحلتيهما وأردف أبو بكر عامر بن فُهيرة، وتقدمهم الدليل، فصاروا أربعة كما قال في الحكاية، حتى وصلوا إلى المدينة. وروي عن النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ». وقد وصف أصحاب السير مراحله في طريقه مرحلة مرحلة، وما كان منه فيها من أعلام نبوَته المعجزات، من ذلك خبره مع سراقة بن مالك بن جعشم وذلك أنهم مروا في مسيرهم بناحية موضع سراقة بن جعشم، فلما رآهم علم أنهم الذين جعلت فيهم قريش ما جعلت لمن أتى بهم، فركب وتبعهم ليردهم بزعمه، فدعا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم استقلَّت فأتبعها دخان، فعلما أنها آية فناداهم قفوِا علي وأنتم آمنون فوقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فهم به فساخت يدا فرسه، فقال: ادع الله لي فلن تر مني ما تَكره، وأنا أَنصرف عنك الطلب فدعا له فاستقلت فرسه، وسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يكتب له كتاباً فأمر أبا بكر فكتب له وانصرف، وجعل يرد كل من لقي يقول لهم: قد كفيتكم هذه الناحية فكان أَول النهار طالباً لرسول الله وآخره معه راداً للطالبين عنه. وخبره مع أُم معبد حين مروا بها في خيمتها في شاتها الحائل على ما هو مشهور معلوم بنقل الثقات وساروا على غير الطريق المعهودة حتى وصلوا إلى المدينة فنزلوا بقباء ضحى يوم الاثنين، وقيل: عند استواء الشمس، لاثنتي عشرة ليلة خلت لربيع الأول، وأول من رآه رجل من اليهود وكان أكثر أهل المدينة قد خرجوا ينظرون إليه، فلما ارتفع النهار وقلصت الظلال، واشتدَّ الحَر يَئِسوا منه وانصرفوا ورآه رجل من اليهود كان في نخل له، فصَاح: يا بني قيلة، هذا جدّكم قد جاء، يعني حظكم، فخرجوا وتلقوه، فقيل: إنَّه دخل معهم المدينة، فقيل: إنًه نزل على سعد بن خيثمة، وقيل: إنَّه نزل على كلثوم بن هرم، وكان فيمن خرج إليه قوم من اليهود كان فيهم عبد الله بن سلام، قال: فلما نظرت إلى وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعت منه: «أَيها النًاسُ أفْشُوا السَّلامَ وَأَطْعِموا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الَأرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللًيْل وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنًةَ بِسَلاَمٍ».

.مسألة ذم الحسد:

في الحسد قال مالك: بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكِبَر والشحّ، حسد إبليسِ وتكبّر على آدم، وشحّ آدم، فقيل له: كلْ من شجر الجنة كلها إلَا التي نهاه الله فشحَّ فأَكل منها.
قال محمد بن رشد: الحسد من الذنوب العظام لأن الله تَعالى نهى عنه وحرمه في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عزَّ وجلّ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] وقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] أن يعطيه مثل ما أعطاه لغيره، دون أن تزول النعمة عنه فليس ذلك بمحظور ولا حسد، وإنما هو الغبطة، تقول غبطت الرجل في كذا، وحسدته عليه، فالغبطة مباحة، والحسد محْظور. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلّاَ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُل آتَاهُ اللًهُ الْقُرْآنِ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْل وآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ يُنْفِقهُ آنَاءَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ» معناه لا حسد أصلاً، لكن في هذين الاثنتين تغابطوا فيهما فالاستثناء في الحديث استثناء منقطع، ومن الناس من ذهب إلى أن قول النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ليس على عمومه؛ لأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قد أَباحه في الخير، وقال: «لا حسد إلّاَ في اثنتين»، والذي ذهب إلى هذا قال: إن الحسد على وجهين: حسد معه بغيٌ، وحسدٌ لا بغي معه. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِذَا حَسَدْتُم فَلَا تَبْغُوا».
والبغي والله أعلم هو أَن يريد الإِضرار بالمحسود بزوال النعمة عنه، فالحسد الذي لا بغي معه جائز، والحسد الذي معه البغي محظور. فالحسد على هذا ينقسم على قسمين: حسد في الخير، وحسد في المال، فالحسد في الخير مرغب فيه، إذ لا بغي فيه، والحسد في المال جائز إذا لم يكن معه بغي، ومحظور إن كان معه بغي، وكذلك الكبر محظور مذموم؛ لأن الكبرياء إِنَّما هي لله تعالى، فمن تكبَّر قصمه الله ومن تواضع رفعه الله.
والشحّ على وجهين: شحّ بالواجبات، وشحّ بالمندوبات، فأما الشحّ بالواجبات فحرام، وأما الشح بالمندوبات فمكَروه. فمن وُقي الشح في الوجهين فقد أفلح، قال عزَّ وجلّ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].
وقوله في آدم: فشحَّ فأكل منها. معناه: فشحَّ أَن يأكل من ثمر الجنَّة التي أباح الله له الأكل منها إِبقاءً عليها وشحًّا بها، وأكل من التي نهاه الله عنها. والله الموفق.

.مسألة الأدب في الأكل:

في الأدب في الأكل وسُئل مالك: عن رجل يأكل في بيته مع أهله وولده، فيأكل معهم فيما بينهم، ويَتناول ذلك من أَيديهم، قال: لا بأس بذلك، وسُئل مالك: عن القوم يأكلون في مثل الحرس، فيتناول بعضهم بين يدي بعض، وبعضهم يتوسع لبعض. قال: لا خير في ذلك، وليس هذا من الأخلاق التي تعرف عندنا.
قال محمد بن رشد: إنَّما لم ير بأساً إذا أكل الرجل في بيته مع أهله وولده، مما يليهم؛ لأن الرجل لا يلزمه أن يتأدَّب مع أهله وولده في الأكل، ويلزم أَهله وولده أن يتأدّبوا معه فيه، وعليه هو أَن يأمرهم بذلك على ما جاءت به السنّة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في قوله لربيبه عمر بن أبي سلمة: «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»، وكذلك الرفقاء إذا اجتمعوا في الأكل يلزم أن يتأدَّب كل واحد منهم في أكله مع صاحبه، فلا يأكل إلَّا مما يليه على ما قاله مالك في القوم يأكلون في مثل الحرس أَو في مثل الجريش على ما وقع في بعض الكتب. وهذا في الطعام الذي صفته واحدة، لا تختلف أغراض الآكلين فيها كالثريد واللحم وشبهه، وأما الطعام المختلف الذي تختلف أغراض الآكلين فيه، فلا بأس أن يتناول بعضهم ما يعجبه منه، وإن كان يلي غيره. وقد جاءت به السنّة. رُويَ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عِكْرَاشٍ بْنِ ذُؤيْبِ قَالَ: «بَعَثَنِي بَنُو مرةَ بن عُبَيْدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إِلَى النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْتُهُ جَالِساً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ فَأَتَيْتُهُ بِإِبلٍ كَأَنَّهَا عُرُوقُ الأرطى فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤيْبٍ، فَقَالَ: ارْفَعْ فِي النَّسَبِ، فَقُلْتُ: ابْنِ حُرْقُوصٍ بْنِ جعْدةَ بْنِ عَمْرِو بنِ النزال بنِ مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ. وهَذه صَدَقَاتُ بَنِي مُرةَ بن عُبَيدٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثمَّ قَالَ: بَل هذه إِبِلُ كرمي ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُوسَمَ بِمِيْسَم إِبِل الصَّدَقَةِ وَتُضَمَّ إلَيْهَا ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى مَنْزِل أُمِّ سَلَمَةَ زَوْج النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَام؟ فَأَتَتنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدكِ فَأَقْبَلْنَا نأكلُ مِنْهَا فَأكًلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَجَعَلْتُ أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا، فَقَبَضَ رَسولُ اللَّهِ بِيدهِ الْيًسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى. وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثمَّ أَتَتْنَا بِطَبَقٍ فِيهِ ألْوَانٌ مِن رطِبِ أَوْ ثَمْرِ- شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ: رُطَباً كَانَ أَو ثَمْراً؟- فَجَعَلْتُ آكُلُ مِمَّا بَيْنَ يَدِيَّ فَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّبَقِ، وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْث شِئْتَ ثمَّ أَتَتْنَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمَّ مَسَحَ بِبَلَل كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وذِرَاعَيْهِ وَرَأسهُ ثمَّ قَال: لا يَا عكْرَاشُ هذَا الْوُضوءُ».

.مسألة كراهية التنعُّم وزَيِّ الأعاجم:

في كراهية التنعُّم وزَيِّ الأعاجم قال مالك: بلغني أَن عمر بن الخطاب قال: إِيَّايَ والتَّنعّمَ وَزَيَّ الأعَاجِمَ.
قال محمد بن رشد: قول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاي والتنعم، معناه: التحذير من التنعم بالمُباحات في الدنيا، وذلك منه على سبيل التورع فيها، والتقلل منها؛ لأن من تنعم بشيء في الدنيا، فلابد أن يسأل عن تنعمه، وما يجب لله من الحقوق فيه، قال عزَّ وجلّ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه في الطعام الذي أكلوه عند أَبي الهيثم بن التيهان، وقد صنع لهم خبزاً من شّعير وذبح لهم شاة واستعذب لهم ماء فعلق في نخلة: «لتسألنَّ عن النعيم هذا اليوم». ومن حق المسلم الخائف لله، لا يتنعّم في الدنيا، ويطوي بطنه عن جاره وابن عمه، وقد أدرك عمر بن الخطاب جابر بنَ عبد الله ومعه حِمل لحم، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أَمير المؤمنين قدمنا إلى اللحم، فاشتريت بدرهم لحماً فقال عمر: أَمَا يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره وابن عمه؟ أَين تذهب هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]، وأمَّا زي العجم فإنَّما نهى عنه عمر بن الخطاب لما فيه من التشبّه بهم، وقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «مَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم، وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْم كَانَ شَرِيكَ مَنْ عَمِلَهُ». فزي العجم منهي عنه ملعون لابسه، وكذلك سيوفهم وشكلهم، وجميع زيهم، هو مثله في اللعنة والكراهة، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، فلا يجوز لأحد لبسه في صلاة ولا غيرها، ومن جهِل فلبسه في الصلاة فلا إعادة عليه إذا كان طاهراً وقد أساء. وبالله التوفيق.

.مسألة إيثار الرجل المساكين على نفسه:

في إيثار الرجل المساكين على نفسه بالطيب من الطعام قال مالك: كان طاووس يشتري الجزرة لسُفرتِهِ، فيدفعها إِلَى المساكين قبل أن يذبحها، وكان يعمل الطعام الطيب، ويدعو إليه المساكين، فقيل له: لو دعوت أشراف الناس، فقال: لا، إن هؤلاء لا عهد لهم بمثل هذا، فقيل لمالك: فإِنَّه كان بمصر رجلٌ يسمى مروان اليحصبي يفعل ذلك، فقال: ما أَجود أن يفعل هذا، وأعجبه العمل به.
قال محمد بن رشد: الفضل في هذا بيِّن لا يخفى، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فإذا أعطى الرجل المساكين فضل الطعام كان له عند الله فضل.

.مسألة يَمُد من بسم الله الرحمن الرحيم ما لا يُمَدُّ:

فيمن يَمُد من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ما لا يُمَدُّ وسئل مالك: عن مد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أترى به بأساً؟ قال: لا بأس به، وما الذي يسْأَل عن مثل هذا؟ قال: وسألته عن مد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قبل أن يجعل السين، قال: ما يعجبني.
قال محمد بن رشد: إذا لم ير بأساً في المد في الخط فيما بين السين والميم من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأنكر السؤال عنه؛ لأن الجواز فيه بيِّن، بل هو مستحب مستحسن؛ لأن مد الخط في كتاب اسم الله تفخيمٌ له، وتحسين فيه، ومن الحق أن يفخم له عز وجل في الكتاب، ويحسن غاية ما يقدر عليه، على ما جرى به عمل الناس في القديم والحديث، ولا يدمج ويخرج، وأما المد فيما بين الباء والسِّين من اسم الله في الخط، فوجه الكراهة في ذلك، أن الباء ليست من اسم الله، وإنما دخلت عليه للِإلزاق والِإعلام بالبداءة؛ لأن المعنى في ذلك: أستفتح كلامي وفعلي باسم الله، فلا يحسن أن يفرق بينهما بالمد كما يفعل بين الحرفين من الاسم ليحْسن به؛ إذ ليس من الاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة القران في الثمر:

في القران في الثمر وسئل مالك: عن القران في الثمر، قال: لا خير في ذلك، قال ابن القاسم: يعني أن يكون الإنسان يأكل ثمرتين أو ثلاثاً في لقمة. قال مالك: خرج عمر بن الخطاب إلى أرض الحبشة في الجاهلية في جهد أصابهم، فاستضاف قوماً من الحبشة فجاءوهُ بخزيرة غير كبيرة، وعلى رأسها شيء من سمن، فطفق أحدهم يدور منها مثل النواة فيأكله، قال عمر: فخيَّرتُ نفسي بين أن آكل كما كنت آكل أو آكل كما يأكلون، فرأيت أن آكل كما يأكلون، فأكلت، وذكر ذلك عند القران في الثمر. قال ابن القاسم: يعني بخزيرة: عصيدة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إنه يأكل الإِنسان ثمرتين أو ثلاثاً في لقمة- تفسير صحيح لا اختلاف فيه وفي صحته، وإنما قال مالك: لا خير في ذلك، للنهي الوارد في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. وقد اختلف في علة النهي عن ذلك، فقيل: إنما نهى عنه لما فيه من سوء الأدب، فعلى هذا لا يجوز لمن واكل قوماً يلزمه أن يتأدب في أكله معهم- أن يقرن دونهم، وإنما يجوز ذلك له مع أهله وولده، إذ لا يلزمه أن يتأدب في أكله معهم على ما مضى فوق هذا من أنه لا بأس إذا أكل معهم أن يتناول مما بين أيديهم، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية. وما فعله عمر بن الخطاب مع الذين استضافهم في الخزيرة التي أتوه بها؛ لأنهم لما أتوه بها، فقد أذنوا له في الأكل منها على أي صفة شاء، فرأى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن يترك عادته في الأكل، تأدباً معهم. وقيل: إنما نَهى عن ذلك لئلا يستأثر في الأكل على من يواكله بأكثر من حقه، فعلى هذا يجوز لمن أطعم قوماً وأكل معهم أن يقرن دونهم. وهو قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب بعد هذا.
وللشركاء في الطعام إذا كان ملكاً لهم، وأطعموا إياه أن يقرن أحدهم إذا استأذن أصحابه في ذلك. وذلك مروي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من رواية ابن عمر. قال: «نهى رسول اللَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقرِن الرجُلُ بَيْنَ الثَّمْرَتَيْنِ حَتَى يَسْتَأذِنَ أَصْحَابَهُ» وبالله التوفيق.

.مسألة انتظار الِإمام الناس للخطبة بعد صعوده على المنبر:

في انتظار الِإمام الناس للخطبة بعد صعوده على المنبر قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فجلس عليه وصمت حتى ذهب الأذان إلى العوالي فأذن الناس بجلوس عمر على المنبر قبل الخطبة حتى جاءوا ثم تكلم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ..مسألة صفة القصد المحمود:

في صفة القصد المحمود قال: وسمعت مالكاً يذكر القصد وفضله، قال: وإياك من القصد ما تحب أن تُرفع به، فقيل له: لم؟ فقال: ما يعجب به، ولعجب الناس.
قال محمد بن رشد: القصد الاقتصاد في الإنفاق واللباس، وفي معناه جاء الحديث: «ما عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»، وكفى في بيان فضله ثناءُ الله تعالى على أهله بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وذكر مالك في الموطأ أنه بلغه عن عبد اللهِ بن عباس أنه كان يقول: الْقَصْدُ وَالتُّؤدة وَحُسْنُ السّمت جُزْءٌ مِن خَمْسِةِ وَعِشْرِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوءَةِ. وقد روي عن ابن عباس معناه مرفوعاً إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُكْرَهُ مِنَ الْقَصْدِ كَمَا قَال: مَا يُعْجَبُ بِهِ فَاعِلُه فَيُعْجِبُ النَاسَ، وَيَذْكُرونَهُ بِهِ، ويُشَارُ إليه بسببه.
وقد روي عن الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفى بالمرء مِن الشرِّ أن يشَارَ إليُه بالأصَابع في دينه أَوْ دُنْيَاهُ، إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللَهُ». وروي عن رجل من الأنصار أنه قال: ما استوى رجلان صالحان، أحدهما يشار إليه، والآخر لا يشار إليه؛ لأن الرجل إذا أُثني بالخير عليه وأُشير به إليه، لا يخلص من أَن يعجبه ذلك، ويُسَر به، ولا ينبغي للرجل أن يسر إلا بما يرجوه مِنَ الثواب عند الله في الدار الأخرى، لا بثناء الناس عليه في الدنيا. وبالله التوفيق.

.مسألة القاضي لا يقضي وهو جائع:

في أن القاضي لا يقضي وهو جائع ولا وهو شبعان جداً قال مالك: إنه يقال: لا يقضي القاضي وهو جائع من غير أن يشبعِ جداً؛ لأن الغضب يحضر الجائع، والشبعان جداً يكون بطيناَ.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله؛ لأن القاضي لا ينبغي له أن يقضي إلا وهو فارغ البال عما يشغله، ليفهم ما يقضي به، كما لا ينبغي له أن يصلي إلا وهو فارغ البال عما يشغله في صلاته. فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُصَلِّين أَحَدُكُم بِحَضْرَةِ الطَّعَام، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُه الأخْبَثَانِ: الْغَائِطُ وَالبَوْلُ». وبالله التوفيق.

.مسألة أحكام ما أحله الله ونهى عنه وعفا عنه:

في أحكام ما أحله الله ونهى عنه وعفا عنه قال مالك: يقال: أمرٌ أحله الله فاتبعوه، ونهيٌ نَهى الله عنه فاجتنبوه، وعفو عفا الله عنه فدعوه. قال مالك فيه: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101].
قال ابن القاسم: وشذ قوله في هذه الحكاية: أمر أحله الله فاتبعوه، معناه: أمر أحله الله فأحلوه؛ لأن ما أحله الله فهو حلال، يجوز أكله، ولا يجب.
وقوله فيها: عفو عفا الله عنه فدعوه، يدل بحمله على ظاهره، أن المسكوت عنه محظور لا يباح أكله، وإلى هذا ذهب مالك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان؛ لأنه قال فيه في المد الذي يأكله الناس: أنه ينبغي للِإمام أن ينهى الناس عما يضر بهم في دينهم ودنياهم، واحتج للمنع من جواز أكله بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، أما الطين من الطيبات ولم يحمله مالك في هذه الرواية على ظاهره، بل رأى المعنى في قوله: فدعوه اختياراً لا إيجاباً، بدليل قوله فيها: قد رفع اللَّه فيه الحرج عنهم بعفوه عنه؛ لئلا يحرم عليهم إن سألوه عنه فيسوؤهم ذلك، فقول مالك في هذه الرواية: إن المسكوت عنه مباح، وإلى هذا ذهب أبو الفرج.
ووجه القول الأول من طريق النظر: أنه قد ثبت أن الأشياء مِلكُ مالك، والأصل لا يستباح مِلْك أحدٍ إلا بإذنه، ووجه الثاني وأن خلق اللَّه تعالى له دليل على الِإباحة، إذ لا يجوز أن يخلقه عبثاً لغير وجه منفعة.

.مسألة امتيار القمح من بلد إلى بلد:

في امتيار القمح من بلد إلى بلد قال مالك: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على أيْلَة كتب إليه: إن قومي يمتارون القمح منها يمتارونه إلى غيرها، وإنه بلغني أن أَمير المؤمنين منع طعاماً أن ينقل. فكتب إليه عمر: ما ظننت أن أحداً أبَه لهذا، وإن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا، فخل بين الناس وبين البيع والابتياِع.
قال مالك: كان مِن العيب الذي يُعاب به من مضى ويرونه ظلماَ عظيماً منعُ التجر.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي والله أَعلم فيما كتب به عامل أيلة إلى عمر بن عبد العزيز أن الناس كانوا يمتارون القمح من أيلة إلى غيرها ليبيعوه بها فهمَّ أن يمنعهم من ذلك لما بلغه أنه منع طعاماً أن ينقل وإنما كان منع والله أعلم مِن نقله للاحتكار، فكتب إليه: ما ظننت أن أحداً أبه لهذا، أي: ما ظننت أن أحداً هم بالمنع من مثل هذا فلا تمنع منه، وخل بين الناس وبينه، فإن الله قد أَحل البيع وحرم الربا، فنقل الطعام من بلد إلى بلد للبيع جائز، وإن أضر ذلك بسعر البلد الذي ينقل منه كان بأن تعلية الأسعار بالبلد الذي ينقل منه ترخيصاً في البلد الذي ينقل إليه.
والمسلمون في جميع البلد أُسوة، ليس بعضهم أحق بالرفق من بعض. وأما نقل الطعام من بلد إلى بلد للاحتكار، ففيه خلاف وتفصيل، قد مضى القول فيه في رسم يسلم من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، فلا معنى لإِعادته هنا.
وقول مالك: كان من العيب الذي يعاب به من مضى ويرونه ظلماً عظيماً منع التجر، معناه: شراءُ الطعام للحكرة؛ لأن الحكرة قد أتت آثار في التشديد فيها، فحملها بعض من مضى على عمومها في جميع الطعام، وفي كل الأزمان، ولم ير ذلك مالك.
وقد مضى تحصيل القول فيما يجوز من الاحتكار مما لا يجوز منه في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع فأغنى ذلك عن إعادته.

.مسألة التسليم لأمر الله والرضا بقدَره:

في التسليم لأمر الله والرضا بقدَره وسمعت مالكاً: يذكر أن القاسم بن محمد وقف بعرفة ومعه عمر بن الحسين فافتقد عبد الرحمن، فقال القاسم: يا عمر، التمس أخاكَ، فالتمسه فلم يجده، فقال القاسم: قضاء الله خير للمؤمنين.
قال محمد بن رشد: في هذا الرضا بقضاء الله والتسليم له، والِإيمان بالقدر خيره وشره من عقود الِإيمان، فقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتًّى الْعَجْزِ وَالْكَيْس، أَوِ الْكَيْس وَالْعَجْزِ»، فالتكذيب به كفر وضلال، وقد مضى القول في هذا في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين، فلا وجه لِإعادته.

.مسألة لباس الرجل الثوب المصبوغ:

في لباس الرجل الثوب المصبوغ قال مالك: رأيت ابن المنكدر يلبس الثوبين المصبوغين الموردين المتينين بالزعفران، ولقد رأيت في رأسه الغالية، ورأيت ابن هرمز يلبس الثوبين بالزعفران، ورأيت عامر بن عبد الله، وربيعة بن عبد الرحمن وهشام بن عُرْوة يفرقون شعورهم، وكانت لهم شعور، وكانت لهشام جمة إلى كتفيه. قال مالك: إن كان ابن عمر ليتبع أمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ حتى إن كان يخاف على عقله.
قال محمد بن رشد: اختلف السلف الماضي في لباس المزعفر والمعصفر من الثياب، لما رُوي: من «أنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أن يَتَزَعْفَرَ الرَجُلُ» وأنه «نَهَى عَنِ المُعَصْفَرِ». ولما جاء «عن عبد الله بن عمر، وقال: رَآني رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيَّ ثَوْب مُعَصْفَرٌ، فَقَالَ: ألْقِهَا فَإنَّهَا ثِيَابُ الْكُفّارِ». «وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ، أنَّهُ قَال: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَقُولُ نَهَاكُم عَنْ لِبَاسَ الْمُعَصْفَرِ».
ولم ير أكثرهم في ذلك بأساً. منهم عبد الله بن عمر والبراء بن عازب وطلحة بن عبيد اللَّه ومحمد بن علي وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وأبو وائل شقيق بن سلمة وزر بن بن حبيش وعلي بن حُسين ونافع بن جبير بن مطعم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم. وقال مالك في الموطأ في الملاحق المعصفرة في البيوت للرجل وفي الأفنية: لا أعلم من ذلك شيئاً حراماً، وغير ذلك من اللباس أحب إلي.
وما حكاه مالك عن عامر بن عبيد الله وربيعة وهشام من أنهم كانت لهم شعور، هو المستحسن عند عامة العلماء، لما في ذلك من الاقتداء بما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فقد روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنه كان يَسْدُلُ شَعَره، وكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُم، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُؤُوسَهم، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْل الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثًمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ رَأَسه. وروي أَن شَعرَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كَانَ دونَ الْجُمَّةِ وَفَوْقَ الْوَفْرَة» وروي «عن أنس أنه قِيلَ لَه:
كَيْفَ كَانَ شَعَر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: كَانَ شَعراً رَجِلاً لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلاَ بِالسَّبِطِ، بَيْن أُذُنِهِ وَعَاتِقِه»
. وروي عن أنس أيضاً أنه قال: «كَانَ شَعَرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْه». وروي عن أنس أيضاً أنه قال: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَعَرُهُ إلى شَحْمَةِ أُذُنِهِ».
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن إحفاء الشعر أحسن من اتخاذه؛ لما روي «عن وائل بن حجر قال: أَتَيْنَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ولِي شَعَرٌ طَوِيلٌ فَقَالَ: ذبَابٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي فَذَهَبْتُ فحززته، ثم أَتَيْتُ النَّبَيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: ما عَنَيْتُك، ولَكِنْ هَذَا أَحْسَنُ». قالَ: وما جعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن كان لا شيء أحسن منه.
ومعقولٌ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صار بعض هذا القول إلى هذا الأحسن وترك ما كان عليه قبل ذلك؛ إذ هو أولى بالمحاسن كلها من دون الناس، وليس حديث وائل بن حجر في هذه بحجة بينة، لاحتمال أن يكون شعره قد طال طولاً كثيراً خرج به عن الحد المستحسن، ولهذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه وقد حزه: هَذَا أَحْسَنُ، ولعله لم يحزه كله وأبقى منه لِمَّةً أو وفرة.
ومن الصحابة من كانت له لمة، ومنهم من كانت له وفرة، ومنهم من حلق، فالأمر في ذلك واسع، وما تظاهرت به الآثار من أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له شعر طويل أحسن، ففيه الأسوة الحسنة، وقد كان ابن عمر على ما حكاه عنه مالك هاهنا يتبع أمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، حتى إن كان ليخاف على عقله وقد رُئي يدور بناقته في مَوْضِعٍ رَأَى نَاقَةَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دارت به فيه، فقيل له في ذلك، فقال: أحببتُ أن تطأ ناقتي المواضع التي وطئتها ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.